(قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها) لأنها آحاد، (ولا من جهة متنها) لأنه إذا كان متن المتواتر لا يفيد فكذلك متن الآحاد من باب أولى، (فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وهي أعظم وأوجب وأشرف وأجل المعارف، وجعلوا الطريق إليها كما قال رحمه الله: (وأحالوا الناس إلى قضايا وهمية ومقدمات خيالية، سموها قواطع عقلية، وبراهين يقينية).
وهذا تعبير جيد، إذ إن ما يسمونه قواطع عقلية وبراهين يقينية فهو في الحقيقة قضايا وهمية ومقدمات خيالية، فصاحب العقل إذا قال: عندي أمور عقلية وعارض بها النص، فاحكم بأن هذا ليس عقلاً، وإنما هو وهم أو خيال، وأما صاحب الكشف أو العلم الباطن وما أشبه ذلك إذا جاء وقال: كشفي أو ذوقي أوصلني إلى كذا وكذا، ووجدت أنه ليس في الكتاب ولا في السنة، بل هو معارض له، فاحكم عليه بأنه خرافة؛ لأنه وحي من الشيطان، بينما المسكين يظن أنه كشف من الله في قلبه، وهذا الشيطان ألقى في قلبه خلاف الحق أو خلاف الآية أو خلاف الحديث، وهذا كله من الشيطان، وعليه فهؤلاء المتكلمون وأمثالهم ما يسمونه قواطع عقلية وبراهين يقينيه هي في الحقيقة قضايا وهمية ومقدمات خيالية، ثم استشهد الشيخ بالآية فقال: (وهي في التحقيق: (( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ))[النور:39]).
ولذلك يجد الإنسان أول ما يقرأ في كتبهم أنهم يبدءون فيقولون: علم الكلام هو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالبراهين العقلية! وبالتالي قد يقول الإنسان المسكين: إذاً لو عرفته لاستطعت أن أرد وألزم وأفحم كل المناظرين والمجادلين، ولذلك يقولون في التعليل: يا أخي! إذا وجدت يهودياً أو نصرانياً هل تناظره بالقرآن؟! هو كافر بالقرآن، وهل تناقشه بالسنة؟! هو كافر بالسنة، لكن ناظره بالبراهين العقلية فتغلبه -كلام طيب- وهذه البراهين هي علم الكلام، ولذلك كما ذكر الشيخ في الآية أنها كسراب كما ذكر الله تعالى في أعمال الكفار، فاستعار هذا لهذا، والضمآن في الآية: المتعطش، كحال كثير من الناس، إذ إنه متعطش إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته، وكيف يرد شبهات المبطلين؟ فيقول لك: الماء أمامك، فإذا ما ذهب وجد السراب، ويظل يجري ويجري من سراب إلى سراب، وفي النهاية عند الموت يدرك أنه لا شيء، كما فعل الرازي و الجويني وغيرهم عندما يأتي الموت فتصبح الحقيقة أمامه واضحة:
نهاية إقدام العقول عقال            وغاية سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال الغزالي :
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل            وعدت إلى تصحيح أول منزل
وهذه قالها لتلميذه أبي بكر بن العربي وهو سالك طريق التصوف، فعندما جاءه الموت كان صحيح البخاري على صدره، فقال العلماء: البيت الذي قاله الغزالي عندما خرج من بغداد ، وأخذ المخلاء، وتزيا بزي الصوفية ، هذا البيت يصلح هنا عند الموت، عندما كان صحيح البخاري على صدره، فهذا هو موضع أن يقول:
تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل            وعدت إلى تصحيح أول منزل
قوله: أول منزل، أي: الكتاب والسنة، إذ إنها هي الأول، وليس ما قلته من قبل، فهم يدركون أن هذا كان سراباً عند الموت، لكن في أثناء حياتهم يظلون يلهثون وراءه، ويظنون أن هذا هو الذي يعطيهم اليقين.
فهذا المثال أو المثال الآخر وهو قوله تعالى: (( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ))[النور:40]، وهذا من أعظم الأمثلة البلاغية في القرآن الكريم على عمل الكفار، وعلى حبوطه، وعلى أنهم لا يظفرون ولا يصلون إلى شيء، والمهم هو ما ختم الله تبارك وتعالى به الآيتين: (( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:40]، أي: من لم يجعل الله له يقيناً فما له من يقين؟ ومن لم يجعل الله له برهاناً فما له من برهان، وهكذا فالحق واليقين والبرهان والعلم إنما يؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما عارض به هؤلاء فهو أوهام أو سراب أو خيالات.